
بعد سنوات من العداء، أسفر التقارب المصري التركي عن تهدئة الصراع الثنائي، وتزايد فرص عودة العلاقات إلى طبيعتها، وسط مخاوف من حلفاء القاهرة في السنوات الماضية من أن يكون لهذا التقارب أثر سلبي على تحالفات مصر الجيوسياسية، خصوصا فيما يتعلق بالنزاع البحري بمنطقة شرق المتوسط.
وما يعزز من فرضية هذه المخاوف لقاءٌ رباعي شهدته قبرص يوم الجمعة الماضي، ضم وزير خارجيتها ونظيريه الإسرائيلي واليوناني والمستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، في حين تم استبعاد مصر مجددا بعدم دعوتها إلى تحالف كثيرا ما سعى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تدعيمه في السنوات الأخيرة.
وفي تجاهل آخر لمصر، وقع الثلاثي (إسرائيل وقبرص واليونان) في مارس/آذار الماضي اتفاقا لتطوير أطول وأعمق كابل كهربائي في العالم، يربط بين أوروبا وآسيا تحت سطح البحر.
ومطلع العام الماضي اتفق الثلاثي نفسه، بجانب إيطاليا، على تدشين مشروع خط أنابيب شرق المتوسط "إيست ميد" (EastMed)، في وقت كانت تأمل فيه القاهرة أن تتحول إلى مركز إقليمي للطاقة.
يأتي هذا في وقت تشهد فيه العلاقات المصرية التركية تقاربا، حيث ينتظر أن يزور وفد تركي القاهرة في مايو/أيار المقبل تلبية لدعوة مصرية، حسبما كشف وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو الخميس الماضي، وذلك بعد أيام من تأكيد نظيره المصري سامح شكري حرص بلاده على إقامة علاقات وخلق حوار مع تركيا يصب في مصلحة البلدين.
وفي تصريحات منفصلة للجزيرة نت، اتفق محللون سياسيون بمصر وتركيا على أن التقارب بين البلدين يشكل تهديدا للتحالفات الراهنة بشرق المتوسط، ويعزز من فرص نجاح القاهرة وأنقرة في النزاع البحري، بما قد يفضي في النهاية إلى تكتل ثنائي في مواجهة تحالفات شرق المتوسط المتناقضة.
أول لقاء بين وزراء خارجية إسرائيل والإمارات واليونان وقبرص للبحث في المصالح الاستراتيجية الإقليمية.
هذه هي الخطوة الملموسة الأولى نحو توسيع التأثير الإيجابي لاتفاقيات السلام الابراهيمية وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والسياحة ومكافحة فيروس كورونا.
pic.
twitter.
com/CMYjmGyBiN
— إسرائيل بالعربية (@IsraelArabic) April 16, 2021
أواخر الشهر الماضي، حذَّر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (يتبع جامعة تل أبيب) من تداعيات التقارب المصري التركي على حظوظ تل أبيب وحليفتيها قبرص واليونان، وكذلك مدى التزام مصر بتحالفاتها الجيوسياسية الراهنة، خاصة ملفات واتفاقيات التنقيب في المنطقة الغنية بالغاز.
ودعا المعهد صانعي السياسة الإسرائيلية إلى مراقبة المؤشرات الأخرى بشأن تطور سياسات القاهرة، مشيرا إلى أنه من المرجح أن تنجح الإستراتيجية التركية من خلال زرع حالة من عدم اليقين بين خصومها، مما يعقد جهدا موحدا لاستغلال حقول الغاز وحمايتها.
وعزا الأكاديمي والباحث المصري في العلوم السياسية محمد الزواوي حالة السيولة في بنية التحالفات بالمنطقة إلى عدم وجود نظام إقليمي متماسك تقوده قوة أو قوى مهيمنة، ومن ثم فالكل الآن يبحث عن مصلحته التكتيكية قصيرة المدى من دون أن تكون هناك مظلة جامعة تقود تحالفات إستراتيجية.
وأوضح الزواوي أن التطبيع الخليجي مع إسرائيل مثَّل اليقين لحالة الشك في نهاية النظام العربي، مستشهدا بتصريحات سابقة للسيسي قال فيها إن "الكل يبحث عن مصلحته"، في إشارة إلى المشروعات المزمع إجراؤها بقيادة الإمارات مع إسرائيل في مجالات الطاقة، والتي تتجاوز المصالح المصرية سواء في قناة السويس أو في طموحات مصر لتسييل الغاز.
وأكد أنه يمكن لمحور القاهرة أنقرة، حال تشكله، أن يصبح محورا معطلا لمشاريع تصدير الغاز إلى أوروبا بما يتخطى المصالح المصرية، حيث إن أنبوب نفط يمر في الحدود البحرية لكل من تركيا وليبيا ومصر يصب في المصلحة المصرية لتصدير الغاز إلى أوروبا.
كما يمكن للقاهرة وأنقرة -حسب الزواوي- أن تطورا التعاون في مجال البحث السيزمي (تنقيب عن البترول والغاز) والكشف البحري عن الطاقة بواسطة السفن التركية الخاصة بذلك، وتتلافيا عقود الإذعان مع الشركات الغربية التي تحصل على نصيب الأسد من تلك الثروات.
وتطرق المتحدث إلى التقدم التركي السريع في المجالات التقنية والتي وضعت تركيا في مصاف الدول الكبرى، في مجال استخدام وتشغيل الطائرات المسلحة من دون طيار، مشيرا إلى أن المجال العسكري قد يعد حقلا جديدا للتعاون بين البلدين.
وأوضح الأكاديمي المصري أن ما يعزز هذا الطرح أن كلتيهما تلاقي صدودا من الولايات المتحدة فيما يتعلق بتصدير طائرات "إف-35" (F-35) المتقدمة، وهو ما وضعهما في تقارب مع روسيا، التي لا تمانع في تصدير أحدث طائراتها من نوعي سوخوي (Sukhoi) وميج (MiG) المنافستين للطائرات الأميركية، بما يمكن أن يسمح بمزيد من التعاون في المجالات الدفاعية كذلك.
أما المحلل السياسي طارق دياب فيرى أن منطقة شرق المتوسط تمر حاليا بمرحلة تجاذبات جيوسياسية، ومحاولة كل طرف تقوية موقفه وتعظيم أوراق ضغطه في مواجهة الآخر سواء كان دولة أو تكتلا.
وبالنسبة لمصر، اعتبر دياب -وهو باحث في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط بالمعهد المصري للدراسات في إسطنبول- أن تقاربها مع تركيا هو محاولة للضغط على شركاء خط "إيست ميد"، الذي تم استبعاد مصر منه، موضحا أن التقارب مع تركيا تكتيك لإجبار هذا التكتل على وضع مصر ضمن حساباتهم في مشاريع الغاز.
وفيما يخص تركيا، اعتبر دياب أن تقاربها مع مصر يمثل ورقة ضغط قوية تجبر بها اليونان على الجلوس للتفاوض وتقديم تنازلات حقيقية، والتخلي عن سقفها العالي، وحسم الملفات الخلافية في المتوسط وبحر إيجة.
ومن هذا المنظور، أكد أنه من الطبيعي أن يحدث التقارب التركي المصري صداعا سياسيا في أثينا وتل أبيب.
وتوقع دياب أن يعيد التقارب المصري التركي خلط الأوراق من جديد مما يحدث تصدعا جيوسياسيا في شرق المتوسط وتحالفاته، يكون مقدمة لسيناريوهين مختلفين: الأول، زيادة تمتين التقارب بحيث يدخل في شكل تكتل وتحالف إقليمي في شرق المتوسط مواجه للتكتل الآخر، والثاني ألا يتعدى التقارب كونه تكتيكا ولن يسير للإمام طويلا.
وفي حالة السيناريو الأول، أوضح دياب أنه سيكون خيار ترسيم الحدود البحرية بين البلدين مسارا مرجحا لحد كبير، وهذا في حالة إصرار اليونان وقبرص وإسرائيل ومعها الإمارات على المضي قدما في طريقها ومشروعها وعدم أخذ المصالح التركية والمصرية في الحسبان.
أما فيما يتصل بالسيناريو الثاني، فيتوقع دياب في هذه الحالة استيعاب المطالب المصرية بالنسبة لمشروع "إيست ميد"، أو التركية بالنسبة لمفاوضاتها مع اليونان، وهذا السيناريو قد يؤدي تحققه لتأجيل ترسيم الحدود بين مصر وتركيا، لكنه أكد أنها خطوة ستتم لا محالة على المدى البعيد.
واستشرف الباحث المصري أن تكون الصيغة المتوقعة على المدى البعيد متمثلة في أن تتم حلحلة وحسم خلافات شرق المتوسط بالتفاوض وحلول الوسط، لا المعادلات الصفرية بمبادرات ثنائية وجماعية؛ نتيجة قدرة كل طرف على خلط الأوراق، وتهديد وعرقلة أي مشاريع تستثنيه أو تحيده عن استغلال ثرواته من الغاز في المنطقة.
وحول دلالات وأبعاد التقارب بين القاهرة وأنقرة في شرق المتوسط، يؤكد المحلل السياسي التركي أحمد أويصال، مدير مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط (مستقل ومقره أنقرة)، وجود مصالح مشتركة بين بلاده ومصر، محذرا في الوقت نفسه من أن محاولة إبعاد تركيا عن حقوقها بمناطق نفوذ شرق المتوسط، بسبب الجزر الكبيرة والصغيرة (التابعة لليونان)، لا يخدم تركيا ولا السلام بالمنطقة.
أما عن مصر، فيعتقد الباحث التركي أنها تستفيد من المبدأ التركي في التقاسم للمجال البحري بالمناصفة، كما لها مصلحة مشتركة ومباشرة في مشاركة تركيا، وهو ما أدى إلى تفاعل وتفاهم أكثر بين البلدين.
وحول أسباب انزعاج حلفاء مصر من تقاربها مع تركيا، أوضح أويصال أن خلفياته هي أن إسرائيل لا تريد تعاونا بين دول المنطقة يضعف ويهدد مصالحها، وكذلك اليونان، ومن بعيد فرنسا التي تريد إضعاف تركيا في شرق المتوسط وشمال أفريقيا، إضافة إلى الإمارات التي ليس لها مصلحة مباشرة لكنها تتدخل لصالح إسرائيل واليونان حقدا على تركيا كأمر غير منطقي، بحسب وصفه.
وشدد المحلل التركي على أن بلاده لن تنزعج من قوة مصر لو اتفق البلدان على الإنصاف والمشاركة والتعاون الأخوي ومنطق الجوار السليم، مشيرا إلى أن بلاده لا تحتاج إلى تقديم تنازلات في هذا الصدد، لكن قد تكون هناك بعض التفاهمات بناء على المصالح المشتركة.
ومتطرقا إلى الملف الليبي وارتباطه بتحالفات شرق المتوسط، قال أويصال إن هناك نية للتعاون في ليبيا لأهميتها المشتركة باعتبار استقرارها ونهضتها يمثلان مصدر قوة للبلدين.
من جانبه، رأى الباحث والمحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو أن اليونان هي المتضرر الأبرز والأكبر من التقارب بين بلاده ومصر، حيث ستتضرر مباشرة في المساحة المائية التي كانت تحلم بها في شرق المتوسط، خلافا للنفوذ المائي والسياسي، وذلك بجانب دول أخرى تدعم مصر في سبيل تحقق النفوذ بليبيا.
ورأى أن إسرائيل تعتبر تركيا المنافس الأقوى لها، في وقت استطاعت فيه أنقرة على الأقل تحييد القوة المصرية الكبيرة، بما يمثل أهمية في توازنات المنطقة.
وتوقع رضوان أوغلو أن إسرائيل واليونان، باعتبارهما دولتين مشاطئتين للمتوسط، ستبقيان قوتين ضعيفتين من بين الدول المشاطئة، في حين لن يقدم الحليف القبرصي لمصر شيئا كونه مجرد واجهة إعلامية في المعاملات السياسية.
وشدد على أهمية الدور الليبي في ملف شرق المتوسط، بعد أن أصبح له كلمة نافذة بعد ترسيم الحدود مع تركيا.
وفي ضوء المؤشرات الراهنة، رأى الباحث والكاتب الصحفي التركي عبد الله أيدوغان أن تقارب بلاده ومصر سيغير إستراتيجية ومساعي إبعاد تركيا عن مشهد شرق المتوسط، وسيخلخل النظام الجديد بالشرق الأوسط بعد تطبيع العلاقات الإسرائيلية الإماراتية، التي أصبح لها تأثير سلبي على مصر، خلافا لمؤشرات ابتعاد أبو ظبي عن القاهرة.
وفي ضوء استثناء مصر من قبل حلفائها في لقاء قبرص الأخير، قال الكاتب التركي إن الرباعي ليسوا راضين عن السياسة الجديدة التي تقوم بها الحكومة المصرية، والمتمثلة في التقارب مع تركيا.
وأكد أيدوغان أن الدول المحورية كتركيا ومصر ربما لا يمكنها كتابة سيناريوهات جديد بالمنطقة، لكنها تستطيع منع الخطط والسيناريوهات المعمولة ضدها من دول أخرى، مشيرا إلى أن البلدين يمكن أن يتعاونا على أساس "أنت تكسب وأنا أكسب"، بما يصب في النهاية في صالحهما وصالح شعبيهما.
كما أشار إلى أن بلاده سبق أن تلقت اقتراحات بإمكانية توقيع اتفاقية مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية ومناطق التنقيب بشرق المتوسط على غرار الاتفاق الليبي، لكنَّ الرئيس رجب أردوغان رفض ذلك واختار مصالح مصر.
ثمة تقارب لا تخطئه العين بين مصر وتركيا، وهو تقارب لم يبدأ الآن إنما يعود لأواخر العام الماضي، وتحديدا منذ سبتمبر/أيلول الماضي حين تبادل الطرفان إشارات لجس النبض حول إمكانية فتح حوار أمني وإستراتيجي.
رغم تداعي الوسطاء لمحاولة حل أزمة سد النهضة الإثيوبي، التي توشك على الانفجار؛ إلا أن كل المحاولات فشلت حتى الآن، فيما يتسائل البعض عن غياب الوساطة الإماراتية لما تملكه من علاقات قوية مع مصر وإثيوبيا.
فتح نشر نص اتفاق تعيين الحدود البحرية بين مصر واليونان الباب أمام تساؤلات بشأن تعمد الغموض لأكثر من شهرين، خاصة بعدما اكتشف المصريون أن الاتفاق جزئي وقابل للتعديل مستقبلا بما يسمح بالاتفاق مع تركيا.
في حين أن إثيوبيا كانت تشتكي قبل عقد من سطوة النفوذ التي مكّنت القاهرة من إعاقة تنفيذ أي مشروعات يمكن أن تُهدِّد حصة مصر من المياه، يبدو الوضع معكوسا اليوم حيث تتوافد رؤوس الأموال وعروض مؤسسات التمويل
...
1182
0