
تقوم الحكومات وشركات التكنولوجيا بجمع كميات هائلة من البيانات الشخصية بشكل متزايد، ما أدى إلى إصدار قوانين جديدة، وتحقيقات لا تحصى، ودعوات إلى تشريعات أكثر صرامة لحماية الخصوصية.
ولكن على الرغم من هذه القضايا، يخبرنا علم الاقتصاد أن المجتمع يحتاج إلى مزيد من مشاركة البيانات بدلا من تقليلها؛ لأن فوائد البيانات المتاحة للجمهور غالبا ما تفوق التكاليف.
فقد أدى وصول الجمهور إلى سجلات صحية دقيقة إلى الإسراع في تطوير علاجات طبية منقذة للحياة مثل أحماض لقاحات فيروس كورونا، التي تنتجها شركة "مودرنا" (Moderna) و"فايزر" (Pfizer).
ويمكن أن يؤدي تحسين البيانات الاقتصادية كذلك إلى تحسين الردود السياسية على الأزمة المقبلة إلى حد كبير.
فالبيانات تشعل الابتكار على نحو متزايد، ويُحتاج إلى استخدامها من أجل الصالح العام، مع خصوصية الفرد في الوقت نفسه.
وهذا مجال جديد لصنع السياسات، ويتطلب أسلوبا حريصا.
فقد أدى هذا الوباء إلى تركيز حاد على الهيمنة المتزايدة لشركات التكنولوجيا الضخمة التي تلتهم البيانات، فالشركات المتابعة للحياة الرقمية، ابتداء من تلك المتخصصة في البيع بالتجزئة عبر الإنترنت وصولا لشركات الترفيه المنزلي، تقوم بجمع البيانات واستخدامها لتوقع الطلب على منتجاتها، وتحديد الأسعار، وخفض التكاليف، والتفوق على المنافسين التقليديين.
وتوفر البيانات كذلك سجلا لما حدث بالفعل؛ لكن قيمتها الرئيسة تأتي من تحسين التنبؤات.
حيث تختار شركات مثل "أمازون" (Amazon) المنتجات والأسعار بناء على ما تم شراؤه.
وتعمل بياناتك على تحسين عملية اتخاذ القرار عندهم، وعلى زيادة أرباح الشركات.
وتعتمد الشركات الخاصة أيضا على البيانات لدعم أعمالها، فقد تسببت شركتا "ريدفين" (Redfin) و"زيلو" (Zillow) في تغيير صناعة العقارات بفضل تمكنهما من الوصول إلى قواعد بيانات متعلقة بالملكية العامة.
أما البنوك الاستثمارية والشركات الاستشارية، فتضع توقعات اقتصادية، وتبيعها للعملاء باستخدام بيانات البطالة والأرباح، التي تجمعها وزارة العمل.
وبحلول عام 2013، قدرت إحدى الدراسات أن البيانات العامة ساهمت بما لا يقل عن 3 تريليون دولار سنويا في 7 قطاعات من الاقتصاد في جميع أنحاء العالم.
والمقطع المتكرر للعصر الرقمي هو أن "البيانات هي النفط الجديد"؛ لكن هذه الاستعارة غير دقيقة.
فالبيانات هي بالفعل وقود اقتصاد المعلومات؛ لكنها تشبه الطاقة الشمسية أكثر من كونها نفطا، فهي مورد متجدد يمكن أن يفيد الجميع في وقت واحد، بدون أن يتضاءل هو نفسه.
وواحدة من أفضل الأمثلة على القدرة التحويلية للبيانات المفتوحة هي المشروع الذي تقوده الحكومة الأميركية للجينوم البشري، وهو مشروع بدأ في عام 1990 كمحاولة لرسم خريطة سلسلة كاملة من الحمض النووي البشري بحلول عام 2005.
وقبل ذلك، كانت المختبرات الخاصة تستهدف جينات محددة وبراءات اختراعها لأغراض البحث أو للتطبيقات التجارية مثل تطوير الأدوية لعلاج الأمراض الوراثية.
وبدلا من حماية اكتشافاتها، قامت المختبرات المشاركة في مشروع الجينوم البشري بنشر بياناتها على موقع شبكي عام في غضون 24 ساعة من قيامها برسم ذلك التسلسل وإتاحته مجانا، وهو ترتيب يعرف باسم مبادئ برمودا.
وقد أدى هذا الالتزام بالبيانات المفتوحة إلى إنقاذ أرواح، ودشن عصرا من التقدم العلمي في علم الوراثة.
وقارنت دراسة أجرتها الخبيرة الاقتصادية هايدي وليامز مشروع الجينوم البشري مع جهود تسلسل الجينات المعاصرة، التي تبذلها شركة "سيليرا" (Celera).
فعندما قامت سيليرا برسم خريطة للجين أولا، قامت بحماية ملكيتها الفكرية من خلال مطالبة الشركات الأخرى بالتفاوض على اتفاقيات الترخيص أو دفع رسوم عالية قبل استخدام البيانات.
وبعد سنوات، أدت الجينات التي رسمتها سيليرا إلى عدد أقل بكثير من الابتكارات والمنتجات التجارية مقارنة بتلك التي وضعت على الفور في المجال العام.
وتقدر إحدى الدراسات أن الاستثمار العام في مشروع الجينوم البشري بقيمة 3.
8 مليارات دولار قد حقق فوائد بلغت 796 مليار دولار، وفي عام 2010 وحده، أدى إلى 310 آلاف فرصة عمل جديدة.
وسرّعت معايير تبادل البيانات، التي وضعتها مبادئ برمودا، تطوير لقاحات فيروس كورونا.
حيث أعلن مختبر صيني اكتشاف فيروس كورونا الجديد في 9 يناير/كانون الثاني 2020، وكشف عن تسلسله الجيني خلال عطلة نهاية الأسبوع التالية، وأعلن تسلسل الجينوم للجمهور بعد ذلك مباشرة.
وبحلول نهاية شهر يناير/كانون الثاني، كانت المختبرات تطور لقاحات بناء على تسلسل الجينوم ذاك، على الرغم من أن عينة منه لم تكن قد وجدت بالفعل.
فبدون الالتزام بنشر البيانات، لكانت أمصال فيروس كورونا ما زالت على بعد أشهر.
ومما لا شك فيه أن استخدام البيانات الوراثية للمستهلكين يثير مخاوف خطيرة بشأن الخصوصية، في حين أن من الممارسات الشائعة إزالة محددات الهوية مثل الألقاب من البيانات الوراثية قبل نشرها للجمهور؛ إلا أن الباحثين تمكنوا في بعض الأحيان من تحديد الأفراد على أي حال من خلال الجمع بين تسلسلات الجينات المجهولة مع قواعد بيانات الأنساب وغيرها من المعلومات العامة؛ مثل العمر وولاية الإقامة.
ويمكن حل هذه المشاكل بمزيد من الحماية؛ لكنها تتطلب يقظة مستمرة.
لا يمكن ضمان الخصوصية بيقين كامل، ويجب تقليل المخاطر وتحقيق التوازن بينها وبين فوائد الابتكارات، التي قد تنشأ من زيادة توافر البيانات.
وينطبق منطق مماثل على البيانات الاقتصادية.
فانظر مثلا الرد السياسي الأميركي على فيروس كورونا، حيث قدم برنامج حماية الرواتب، وهو جزء من قانون المعونة والإغاثة والأمن الاقتصادي لفيروس كورونا، مئات المليارات من الدولارات على شكل قروض يمكن إعفاء بعض الشركات الصغيرة منها فيما بعد.
وعلى الرغم من القدر الكبير من المعونة المتاحة، إلا أن الطلب على القروض تجاوز العرض إلى حد كبير.
ومن الناحية المثالية، كان من الممكن أن تستند القروض إلى الحاجة المتوقعة؛ لكن الخزانة لم يكن لديها أي معلومات عن السلامة المالية للشركات.
ففي غياب البيانات الجيدة، استندت القروض إلى المواءمة باستخدام البنوك المحلية كوسطاء، وقدمت قروضا بشكل غير متناسب للشركات، التي تربطها بها صلات قوية.
ويقدر الاقتصاديون أن البرنامج أنفق من 150 ألف دولار إلى 377 ألف دولار لكل وظيفة تم توفيرها، وهو سعر مرتفع لبرنامج كان مضمونا لبضعة أشهر فقط.
ولكن برنامجا أفضل من ذلك كان يستهدف المساعدة لقطاعات الأعمال والمناطق الجغرافية، التي هي في أمس الحاجة إلى المساعدة، وذلك باستخدام بيانات حالية من الشركات نفسها.
وهذه البيانات موجودة بالفعل؛ لكن فقط خلف جدران الشركات.
يجب إذن إخفاء هوية البيانات بأكبر قدر ممكن من الدقة، ثم تجميعها لاحقا لطرحها للاستخدام العام، حتى يتمكن صانعو السياسات ورجال الأعمال المحليون من توجيه الإغاثة لمن هم في أمس الحاجة إليها.
إذ يحتاج التشريع الفدرالي للبيانات إلى تفويض مزدوج، بحيث يوازن بين المخاوف على الخصوصية جنبا إلى جنب مع الفوائد الاجتماعية لزيادة الوصول للبيانات، ودعا مقترحان تشريعيان من الكونغرس في تشكيله الأخير، قدمهما السيناتور كيرستن جيليبراند وشيرود براون، إلى إنشاء وكالة فدرالية مكرسة لحماية بيانات المستهلك.
بحيث تتلقى هذه الوكالة الشكاوى وتجري التحقيقات وتراقب عن كثب التقنيات الناشئة التي تهدد الخصوصية الفردية.
ويمكن دمج وكالة حماية البيانات هذه مع Data.
gov، وهو موقع شبكي حكومي تم إنشاؤه في عام 2009 يجمع ويستضيف مئات الآلاف من مجموعات البيانات للاستخدام العام.
فمعا يمكن أن يشكلا نوعا من مكتبة بيانات فدرالية، لإضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة في العصر الرقمي.
وكما تقوم المكتبات التقليدية بتنسيق مجموعاتها وتنظيمها، يمكن كذلك إنشاء مكتبة رقمية، حيث تتم إضافة مصادر بيانات جديدة وترتيبها وتجميعها للاستخدام العام.
ويمكن لمكتبة البيانات الاتحادية تلك أن تأخذ كذلك بزمام المبادرة في تطوير واستخدام أدوات جديدة مثل الخصوصية التفاضلية، وهي تقنية مصممة للحفاظ على السمات المهمة للبيانات مع حماية الهويات الفردية في الوقت ذاته.
وتتطلب القيمة المتزايدة للبيانات كمورد اقتصادي طريقة جديدة في التفكير، فهناك حاجة إلى إجراءات حماية صارمة للخصوصية لإتاحة البيانات ذات القيمة الاجتماعية للصالح العام.
© مؤسسة نيويورك تايمز 2021
...
435
0