
على طول تاريخ الخطط الحكومية لمواجهة الزيادة السكانية والتي عادة ما يصحبها دعم من المؤسسات الدينية الرسمية عبر فتاوى تجيز تنظيم النسل، ظل المواطن المصري في حالة تشكك تجاه هدف السلطة من تقليص عدد السكان، غير أن تشككه الأكبر بقي حيال الفتاوى الدينية الخاصة بتحديد النسل.
وخلال الأيام الماضية، بدأت مؤسسات دينية رسمية تحركات تشبه الحملة الدعائية تستهدف إقناع المصريين بشرعية تحديد النسل، وذلك عقب تصريحات الرئيس عبدالفتاح السيسي التي أطلقها، الأسبوع الماضي، بخصوص خطورة الزيادة السكانية.
مواقع التواصل الاجتماعي جاءت ضمن الوسائل التي استخدمتها المؤسسات الدينية لإيصال رسالة تحديد النسل، لكن على عكس المستهدف كان لافتا أن فريقا لا بأس به من رواد الإعلام الاجتماعي استحضروا حالة التشكك التاريخية هذه، عبر كثير من التعليقات تجاه مضمون الرسالة الدينية الرسمية.
من الخطأ الاستدلال بقوله تعالى "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ" كحُجة على تحريم تنظيم النسل#تنظيم_النسل_جائز
— دار الإفتاء المصرية 🇪🇬 (@EgyptDarAlIfta) February 18, 2021
خطبة الجمعة هتكون عن تحديد النسل وممنوع ذكر او الاستدلال بالأية دي (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ۗ والله لا يحب الفساد) .
.
أي إمام هيقولها فى الخطبة مش هنستنى التسجيل .
.
المخبر هيطلع يجيبه من فوق المنبر وش .
#حربك_على_الاسلام_مكشوفه #حربك_عالإسلام_مكشوفه
— 𝑀𝑜𝓃𝓉𝒶𝓈𝑒𝓇 𝒜𝓁𝒾 (@Montaser3li) February 18, 2021
#تنظيم_النسل_جائزمن أجل إرضاء #الرئيس وزير الأوقاف جعل خطبة الجمعة عنه #تامر_أمين أهان الصعايدة والفلاحين برامج التوك شو لاحديث إلا عنه#الزياده_السكانية ملهاش أى فائدة😂يا شعب مصر إحنا معندناش زيادة سكانية إحنا سايبين الشقة وكلنا قاعدين فى حجرة واحدة
— إبن مصر (@kamal67o) February 19, 2021
لم تمر ساعات قليلة على تصريحات السيسي حول خطورة الزيادة السكانية وضرورة أن يصبح متوسط المعدل الإنجابي أقل من طفل لكل سيدة، حتى انطلقت التصريحات والبيانات الصادرة عن مؤسسات دينية رسمية وعلماء دين بارزين بخصوص قضية تحديد النسل.
فأطلقت دار الإفتاء على حسابها بموقع التواصل الاجتماعي تويتر وسم "تنظيم النسل جائز" لتوضح من خلاله وجهة النظر الدينية في القضية، مؤكدة جواز اتخاذ الدولة ما تراه من تدابير لتنظيم النسل وترغيب المواطنين فيه.
وبدورها، سخّرت وزارة الأوقاف خطبة الجمعة الماضية، التي تصدر خطباؤها كالعادة وزير الأوقاف مختار جمعة، لخدمة القضية، وخلال الخطبة ذهب جمعة بعيدا واعتبر أن تحديد النسل مسألة تجاوزت حدود الإجازة إلى الوجوبية في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة.
وأعلنت الأوقاف عبر بيان أصدرته، الأسبوع الماضي، إطلاق حملة توعوية بتحديد النسل عبر عدة ندوات مشتركة مع الهيئة الوطنية للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة، وعدد من الدورات التدريبية المكثفة على مدار العام الجاري.
إلى ذلك، خرج عدد من علماء الدين البارزين، عبر تصريحات متلفزة، ليدعموا الدولة في توجهها لتحديد النسل، ومنهم أمين الفتوى بدار الإفتاء، الدكتور خالد عمران، الذي أكد أن تنظيم النسل ليس بدعة ولا يتعارض مع شرع الله بل اعتبره من الإسلام.
وأضاف عمران، عبر برنامج مذاع على قناة صدى البلد، أن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يوجه إلى كثرة العدد دون وعي حتى لا يكون المسلمون كغثاء السيل، موضحا أن الصحابة كانوا يعزلون لأسباب كثيرة منها رعاية لصحة الأم وجودة النسل.
المتابع للتطورات في مصر يدرك بسهولة أن التشكك الشعبي حيال الفتاوى الدينية التي تجيز تحديد النسل أخذ في الظهور منذ ستينيات القرن الماضي مع اتجاه السلطة في مصر إلى الالتفات للزيادة السكانية باعتبارها خطرا لا ثروة، وشروعها في اتخاذ تدابير تخص مواجهة ارتفاع معدلات الإنجاب.
كان صعبا أن يقتنع المواطن بتحديد النسل في ظل إرث من الفتاوى القديمة التي تحث على التكاثر، فضلا عن فتاوى لم تكن حينها في طور القدم مثل الفتوى رقم 1084 التي صدرت عام 1958.
في تلك الفتوى قال مفتي الديار المصرية وقتئذ وشيخ الأزهر بعد ذلك، الشيخ حسن مأمون، إن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية إيجاد النسل وبقاء النوع الإنساني وحفظه، مشددا على عدم شرعية منع النسل أو تحديده.
واستطرد مأمون في فتواه "وليس من الأعذار خوف الفقر وكثرة الأولاد أو تزايد السكان، لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بالرزق لكل كائن حي".
ما يزيد الشكوك حول الفتاوى الرسمية هو ذلك التناقض بين لفظتي التحديد والتنظيم، حيث صدرت فتاوى تجيز التنظيم وتُحرم التحديد الذي يدعو إليه السيسي حاليا.
لفظة تحديد تشير إلى المنع أو وضع حاجز بين شيئين، أما لفظة تنظيم فهي ترمي إلى ترتيب الشيء، ذلك ما أوضحه شيخ الأزهر السابق، محمد سيد طنطاوي، في عام 2009، حيث أكد أن الدين يحرّم تحديد النسل.
وقال طنطاوي في فتواه إن هناك فرقا بين تنظيم الأسرة وبين التحديد لأن الأول يعني أن يأخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل الكفيلة بتباعد فترات الحمل أو إيقافه لفترة معينة من الزمن لتقليل عدد أفراد الأسرة، بصورة تجعل الأبوين قادرين على رعاية أبنائهما الرعاية الكاملة.
والمثير أن طنطاوي كان بالنسبة للكثير من المصريين في ذلك الوقت شيخا تابعا للسلطة أو مواليا لها، لكن في تلك الفترة كان كل الحديث يدور عن تنظيم النسل لا تحديده، وما كان أحد يجرؤ على المطالبة بأكثر من التنظيم.
لم يصدق المصريون الفتاوى التي تجيز تقليل النسل أيا كان المسمى، لكنهم في الوقت نفسه طبقوها بفعل نجاح الحملات الحكومية التي استهدفت ذلك خاصة خلال حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، وفق قول عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وعضو جبهة علماء الأزهر، الشيخ محمد عوف.
وأضاف للجزيرة نت أن الحكومة نجحت على مدار عقود من خلال الحملات الدعائية في ترسيخ فكرة تحديد النسل لمواجهة الظروف المعيشية الصعبة، وأردف "لكن ظل المصريون لا يصدقون أن الدين يأمرهم بذلك".
وأوضح عضو جبهة علماء الأزهر أن هناك إرثا من الفتاوى الدينية التي يثق فيها المواطن وثقافة مجتمعية تحرم وترفض تحديد النسل، وعلى ذلك أصبح المصريون يطبقون تحديد النسل عمليا خلف ستار مصطلح تنظيم الأسرة لكنهم نظريا لا يصدقونه ولا يعتقدون بأنه أمر موافق لصحيح الدين.
مع ذلك فالدولة تسعى لمزيد من تحديد النسل داخل الأسرة الواحدة، كما تطمح لترسيخ الفكرة نظريا داخل عقول المواطنين، حسب قول عوف.
أما مدير المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام، مصطفى خضري، فرأى أن المصريين لا يصدقون كل الفتاوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية وليس فقط تلك الخاصة بتحديد النسل.
وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أنه ومنذ انقلاب ضباط الجيش على الملك عام 1952 أصبحت الفتاوى الرسمية موظفة بشكل سياسي لصالح النظام الحاكم.
وأشار خضري إلى أن المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام، أعد في مطلع عام 2020، دراسة حول مدى ثقة المصريين في الفتاوى الصادرة عن دار الإفتاء، وأعرب 46% من العينة المستهدَفة عن عدم ثقتهم في الفتاوى الصادرة عن دار الإفتاء بشكل عام، في حين ارتفعت نسبة عدم الثقة إلى 51% عندما تعلق الأمر بالفتاوى ذات الجانب السياسي.
ولفت خضري إلى التأييد المطلق الذي يبديه المفتي الحالي، الدكتور شوقي علام، لكل سياسات وتوجهات النظام الحاكم، ما أثر سلبيا على ثقة المجتمع المصري في مصداقية المؤسسة الدينية الرسمية.
إلى جانب عدم الثقة في علماء الدين الموالين للنظام، رأى الباحث في مجال الرأي العام أن مفاهيم تحديد النسل ارتبطت منذ نشأتها بالعلمانية والتغريب، وقد كانت دائما ما تفرض على المجتمع المصري كأحد برامج المؤسسات المانحة أو المقرضة مثل البنك الدولي.
وتابع "ولذلك فإنها تقابل بمقاومة أصولية ليس من المسلمين المصريين فحسب، فالأديان السماوية الثلاثة تحث على التناسل، لذلك فإن أي آراء دينية رسمية تدعو لتحديد النسل ستقابل برد فعل سلبي، بل ربما يكون لها رد فعل عكسي يتعارض مع خطط النظام".
في المقابل، علق مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية، الدكتور أسامة الأزهري، على التعليقات الرافضة لتحديد النسل التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بالتوازي مع حملة المؤسسات الدينية، مؤكدا أن تعليقات المواطنين الرافضة لتحديد النسل تنم عن عدم فهم وتكشف عما سمّاه أزمة الفوضوية الفكرية الموجودة الآن.
وأردف الأزهري -وهو أربعيني لمع نجمه في عهد السيسي- أن "الشخص فيهم يتصور أنه ينصر الحديث الشريف وهو يفعل غير ذلك"، موضحا أن ما تقدمه دار الإفتاء "خلاصة بحث علمي أكاديمي عميق ونزيه على يد خبراء أكفاء أمناء على الدين" حسب قوله.
ويبقى أن أكثر ما يوضح درجة ثقة المصريين في الفتاوى الرسمية هو ما حدث في أغسطس/آب الماضي وعلى الصفحة الرسمية لدار الإفتاء المصرية على موقع فيسبوك، حيث نشرت الصفحة استطلاعا لرأي المصريين عن الجهة التي يلجؤون إليها بحثا عن الفتوى، وخيرتهم بين موقع دار الإفتاء ومحرك البحث غوغل، وكانت النتيجة أن أغلبية كبيرة اختارت غوغل!
بعد ساعات على تصريحات السيسي حول خطورة الزيادة السكانية، انهال على المصريين سيل من التصريحات والبيانات الصادرة عن مؤسسات دينية رسمية ورجال دين تؤكد شرعية تحديد النسل من الناحية الدينية.
صدمة تلقتها دار الإفتاء المصرية، حيث أوضح 70% من جمهور صفحتها الرسمية أنهم يلجؤون إلى محرك البحث غوغل للإجابة عن أسئلتهم الدينية، وليس موقع دار الإفتاء.
خطفت دار الإفتاء المصرية الأنظار بإصدارها فتوى تنهى عن الشماتة بالمصائب كالموت والحوادث وذلك بعد ساعات من حادث مروري تعرض له الإعلامي القريب من السلطة عمرو أديب أعقبه نوع من الشماتة عبر مواقع التواصل.
أثار خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن تسويغ تقصير نظامه في مجال التعليم غضب المنصات المصرية، خاصة بعد أن طالب المصريين بتحديد النسل قبل أن يسألوا عن جودة التعليم.
...
375
0