
في أجواء كتلك التي نمر بها، لا شك أن الإعلان الأخير للثنائي "فايزر" و"بايونتك"، عن نجاح أوّلي في تجاربهما بالمرحلة الثالثة على لقاح جديد مقاوم لكورونا المستجد، كان فرصة لاستشعار بعض الراحة بينما نحن محاطون بكل أسباب الإحباط، في بلادنا يبدو أن الموجة الثانية من الوباء قادمة بقسوة أكبر، وفي العالم أجمع نسجل يوميا عدد حالات بات يقارب المليون، أما عن الوفيات فرغم تحسُّنها فإنها تخطت أوج الموجة الأولى في الصيف الماضي، وفي مجملها تتجه نحن مليون ونصف وفاة!
جاء في الإعلان(1)، الذي أصدرته الشركتان قبل أيام، أن تحليلا مبكرا قد أفاد بفاعلية قدرها 90% للقاح الجديد الذي يحمل اسم "BNT162b2" ويُجرِّبه، بينما نتحدث، أكثر من 43 ألف شخص حول العالم، لكن لا بد أن أول سؤال جاء ببالك مع الإعلان هو: ما معنى أن يكون اللقاح فعالا بنسبة 90%؟
حينما يُجرَّب اللقاح، فإننا نُقسِّم الخاضعين للتجارب إلى مجموعتين، الأولى تتلقّى لقاحا حقيقيا، والثانية تتلقّى لقاحا وهميا يعطي الأعراض الجانبية نفسها لكن بلا أثر طبي، لا يعرف المشاركون في التجارب أي اللقاحين تلقّوا، بعد ذلك نبدأ بالبحث عن حالات الإصابة بـ "كوفيد-19" داخل المجموعتين، هنا ظهر أن هناك 94 حالة إصابة، أكثر من 90% منها كان داخل مجموعة اللقاح الوهمي، والبقية في المجموعة التي أخذت اللقاح الحقيقي.
لهذا السبب تُسمى تلك بنتائج تحليل مبكر(2) (Interim analysis)، وفي العلوم الطبية يعني هذا الاصطلاح الحصول على نتائج أولية، ويُجري العلماء هذا النوع من التحليلات لتقييم فاعلية اللقاح قبل ظهور النتائج النهائية، فإذا كانت الفاعلية مبشرة تُستكمل التجارب.
بحسب البروتوكولات المعتادة في هذا النطاق كان من المفترض أن يبدأ العلماء في حساب النتائج عند وصول عدد الحالات التي أُصيبت بـ "كوفيد-19" من متلقّي اللقاح 164 حالة، لكن ذلك حدث فقط مع أول 94 حالة.
ورغم أنه ما زالت هناك فرصة لتنقلب النتائج فإن 90% فاعلية هي نسبة مفاجئة، حتى لو نزلت فإنه من غير المُتوقَّع أن تتخطى حاجز الـ50% نزولا، وهو الحد الذي وضعته إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) للقبول بإعطاء موافقات للقاح ما، لهذا السبب تُخطِّط "فايزر" و"بايونتك" لتقديم طلب بموافقة على الاستخدام الطارئ للقاح.
لقاح "BNT162b2" هو لقاح حمض نووي(3) mRNA، ولفهم ذلك دعنا نبدأ من بيولوجيا المرحلة الثانوية، أي نوع من الحمض النووي يتكوّن من خط طويل جدا من الحروف الكيميائية المعقدة، لكن دعنا لفهمه نتخيل أنه شريط طويل لأحد أفلام الفيديو القديمة، على طول خط هذا الشريط البني تُسجَّل المشاهد المختلفة، هنا مثلا يلتقي البطل بالبطلة للمرة الأولى، وهناك يتركها لأجل السفر باحثا عن المال، في قطعة أخرى من الشريط يمكن أن تجده عائدا إليها في ندم شديد.
الحمض النووي كذلك يتكوّن من أكواد أو شفرات، هنا شفرة تُحدِّد طولك، وهناك شفرة أخرى تُحدِّد لون عينيك، وثالثة تُحدِّد طبيعة شعرك، كل كود موجود على الحمض النووي يُترجم أثناء نمونا إلى تلك الصفة التي يُمثِّلها.
كل الكائنات الحية تحتوي على حمض نووي، في حالة الفيروسات فإن الحمض النووي يحمل أكواد تصنيع أجزاء الفيروس، وفي لقاح شركتَيْ "فايزر" و"بايونتك" فإن اللقاح يحتوي على قطعة من الحمض النووي المُسمى "mRNA"، ما إن يحقن في عضلات الإنسان حتّى يدخل إلى الخلايا التي تعمل على ترجمته بالطريقة التي تعرفها، لكنه هنا يُترجم إلى قطعة من فيروس كورونا المستجد تسمى "بروتين الحَسَكَة"(4) (Spike Protein)، الذي يستثير استجابة مناعية من قِبَل الجسم.
حينما يهاجم فيروس ما جسمنا فإن الجهاز المناعي الخاص بنا يتعامل مع هذا الهجوم بآليتين، الأولى هي العمل المباشر على إنهاء هذا الهجوم، والثانية هي العمل على نسخ معلومات هذا الغازي القادم من الخارج، وبناء على تلك المعلومات يقوم الجهاز المناعي ببناء خط دفاعي متجهز لأي هجوم مستقبلي من قِبَل النوع نفسه من الفيروسات.
إذا تعرّضت لإصابة بهذا الفيروس لأول مرة، فإن جهازك المناعي يأخذ وقتا ليتكيّف مع الوضع الجديد ويتعامل معه، وفي أثناء ذلك تظهر أعراض المرض، مثل الحمى أو السعال أو ارتفاع درجات الحرارة، التي هي أعراض لهذا الصراع بالداخل، لكن في المرة التالية حينما يدخل الفيروس إلى جسمك يكون الأخير متجهزا له، فيتعامل بسرعة.
يهدف اللقاح -أي لقاح- إلى خلق هذا النوع من المناعة التكيفية ضد الفيروس دون أن تتعرض لإصابة أولية به، وذلك عن طريق استثارة جهازنا المناعي لنوع محدد من الفيروسات -كورونا المستجد في هذه الحالة- فيندفع لتجهيز نفسه لإصابة مستقبلية، لكن على بساطة الفكرة التي يمكن من خلالها خلق تلك المناعة، فالأمر دقيق جدا ومعقد للغاية.
اللقاح من نوع "mRNA" يمتلك عدة مزايا تجعله محاولة واعدة، ليس فقط بالنسبة لحالة كورونا المستجد، وإنما أيضا لعلوم اللقاحات بشكل عام، فهو أولا أكثر أمانا من اللقاحات المعتادة التي تعتمد على استخدام نسخ ميّتة أو أُضعِفَت من الفيروس، لأن تلك النوعية الأخيرة من اللقاحات قد تتسبّب في الإصابة بالمرض، من جانب آخر فإن آلية تصنيعه أسهل وأسرع، ما يفتح الباب لإمكانية إنتاج كميات كبيرة في وقت قياسي.
بدأت حكاية(5) لقاح "فايزر-بايونتك" في مايو/أيار 2020 حينما أطلق الفريق البحثي للشركتين تجارب أولية لنوعين من اللقاح، جاءت النتائج لتقول إن كلا النوعين أنتج استجابة مناعية مناسبة، لكن اللقاح الثاني، وهو "BNT162b2" أنتج نِسَبا أقل من الأعراض الجانبية، التي تراوحت بين إرهاق، وصداع، وقشعريرة، وآلام في العضلات والمفاصل، دخل اللقاح الثاني إلى المرحلة الثالثة بتجارب على 30 ألف شخص، ثم امتدت لتصبح 43 ألف شخص إلى الآن، وإلى جانب الفاعلية، فإن نتائج أمان اللقاح ظلّت كما هي.
من المُتوقَّع أن تحصل الشركتان على موافقة طارئة للاستخدام قريبا، وقد أعلنتا أنه بحلول نهاية العام يمكن إنتاج 50 مليون جرعة مع إمكانية أن نحصل العام القادم على 1.
3 مليار جرعة، بالطبع ستكون هناك أولويات لتوزيع اللقاح، سواء لفئات عمرية محددة (كبار السن) أو فئات مرضية محددة أو فئات وظيفية محددة (العاملين بالرعاية الصحية في العموم)، وسوف تتدخل عوامل سياسية بالطبع، فكل دولة تدفع مقدما إلى الشركات لتكون في ترتيب متقدم بطابور المُحتاجين.
يعني ذلك أن الأمر قد يتطلب وصولنا إلى نهاية عام 2021 لوصول هذا اللقاح تحديدا إلى يدينا، لكنّ فريق شركتَيْ "فايزر" و"بايونتك" ليس فقط اللاعب الوحيد في سباق الحصول على لقاح، في الواقع -وبينما نتحدث- هناك 11 لقاحا آخر في المرحلة الثالثة للتجريب، من بينها لقاح شركة "مودرنا" الذي يعمل بالطريقة نفسها، وبالتالي فقد لاقى الكثير من الاهتمام بعد إعلان النجاح الأوّلي للقاح "فايزر-بايونتك".
شركتا أوكسفورد وأسترازينيكا كذلك تعملان(6) على لقاح جديد يُعتقد أنه قد يصبح جاهزا للإنتاج الضخم قبل نهاية العام، يخضع للقاح حاليا نحو 40 ألف شخص في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وجنوب أفريقيا والبرازيل، مع مجموعة من الاختبارات المخصصة للأطفال، أما الصين فتدخل إلى هذا السباق بلقاحين، الأول هو لقاح شركة سينوفارم، والثاني هو لقاح شركة ساينوفاك، وقد دخلا إلى المرحلة الثالثة من التجريب في ووهان وبكين ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين والمغرب والأردن، ويُعتقد أنه يمكن أن ينتج من اللقاح الأول نحو 220 مليون جرعة سنويا فور اجتيازه للمرحلة الثالثة وحصوله على الموافقات الدولية المطلوبة.
من جانب آخر تدخل روسيا إلى السباق بلقاحها الذي أثار الجدل مؤخرا وفردنا له تقريرا منفصلا(7)، أما الهند فتدخل إلى السباق بلقاح "كوفاكسين"(8)، ومثل اللقاحين الصينيين فإن هذا اللقاح يعتمد على الطريقة القديمة وهي استخدام فيروسات ميتة أو أُضعِفَت، يتعاون في هذا اللقاح كلٌّ من المجلس الهندي للبحوث الطبية والمعهد الوطني لعلم الفيروسات وشركة "بهارات بيوتك" (Bharat Biotech) الهندية، وكانت قد أعلنت مؤخرا أنه لن يكون جاهزا للعمل قبل بداية عام 2021.
لكن رغم كل تلك النتائج المُبشِّرة للقاح "فايزر-بايونتك"، فإن عددا من الأسئلة ما زال مطروحا بقوة على طاولة النقاش، وما زال من الممكن أن يؤثر في خط سير الأحداث(9).
على سبيل المثال، إلى أي حد يقف تأثير اللقاح؟ هل سيمنع المرض تماما أم سيُخفِّف أعراضه؟ نتحدث هنا بشكل خاص عن تلك الحالات التي يُسبِّب فيها الفيروس أعراضا خطيرة وتُمثِّل 20% من الناس، النتائج الأولية للقاح "فايزر-بايونتك" كانت عن حالات متوسطة إلى بسيطة.
من جانب آخر، فإن دراسة تأثير اللقاح على أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن، سواء بالنسبة للفاعلية أو الأمان، أمر يحتاج إلى المزيد من الفحص، لأن تلك التجارب ركَّزت -بشكل رئيسي- على فئات أخرى من المتطوعين، أضف إلى ذلك أنه من الضروري أن يُدرس تأثير اللقاح على مجموعات مختلفة من الأعراق البشرية، وكانت شركتا "فايزر" و"بايونتك" قد أعلنتا أن نحو 40% من الخاضعين للتجارب في الولايات المتحدة الأميركية هم بالفعل من مجموعات عِرقية متنوعة، الأمر الذي يعطي بعض الاطمئنان.
ويبقى أهم سؤال مطروح على طاولة النقاش إلى الآن هو: "إلى أي مدى ستستمر فاعلية اللقاح؟"، هل هي 3 أشهر أم 6 أشهر أم سنة؟ بالطبع أي نتيجة ستكون مقبولة في ظل ظرف كهذا، لكن هذا الرقم سيؤثر بقوة على خطط الدول لمستقبلها مع وباء تعتقد بعض الدراسات أنه سيظل مستمرا معنا إلى العام 2025، من جانب آخر فإن قِصَر المدة يُحمِّل بعض الدول أعباء اقتصادية، خاصة أننا نعرف أن اتفاق(10) "فايزر-بايونتك" مع الحكومة الأميركية كان على 39 دولارا لكل جرعة لقاح (حقنتان يفصلهما 21 يوما)، إحدى المشكلات الاقتصادية الإضافية هي كيفية تخزين هذه الجرعات، فهي تتطلّب الحفظ في درجة حرارة 70-80 تحت الصفر.
لهذه الأسباب، فإنه حتّى مع حصولنا على اللقاح، فستكون الإجراءات الاحترازية مستمرة وصولا إلى عام 2022، لن تُسحَب الإجراءات الاحترازية قبل التأكد تماما من فاعلية اللقاح بالنسبة لكل الفئات العمرية والمَرَضية، وكذلك من المدة التي يبقى اللقاح خلالها فعّالا، من جانب آخر فإنه حتى مع فاعلية اللقاح فإن إنهاء الوباء أمر لن يكون سهلا.
فبحسب دراسة صادرة مؤخرا(11) من الجورنال الأميركي للطب الوقائي (American Journal of Preventive Medicine)، فإنه في حال كانت فاعلية اللقاح نحو 80% فإن القضاء تماما على الوباء يتطلّب أن يستخدمه 75% من الناس، أما إذا انخفضت فاعلية اللقاح دون ذلك فإن ذلك سيتطلّب عددا أكبر من السكان، وهذا أمر صعب الحدوث، على الأقل في فترة زمنية قصيرة، لقاح الإنفلونزا الموسمية على سبيل المثال لا يُنهي الوباء لكنه على الأقل يُخفّضه بقيمة 40-60%.
بالنسبة لحالة كورونا المستجد، فإن ذلك هو المطلوب كبداية، فالمشكلة الرئيسية التي نواجهها إلى الآن هي انهيار المنظومات الصحية في أوج موجة الفيروس، وتخفيف هذا الأوج سيؤثر بقوة في فاعلية المنظومة الصحية، وبالتالي يمكن مواجهة الفيروس بسهولة أكبر، لكن ذلك يعني أن بعض الإجراءات -على الأقل ارتداء الكمامات وغسل اليدين- ستستمر لفترة أطول، في الواقع إن مجرد تجنب إجراءات الغلق فقط هو في حد ذاته نجاح هائل، لأنه على الأقل سيمنع الاقتصاد من الانهيار في كثير من الدول.
في كل الأحوال، فإن النتائج الخاصة بكل اللقاحات، بما في ذلك لقاح "فايزر-بايونتك"، مُبشِّرة جدا إلى الآن، ليست مؤكدة بالطبع، لكن هناك فرصة كبيرة جدا للنجاح، لذلك فكل المطلوب منك هو بعض الصبر، الشتاء قادم ويُعتقد أن موجة الفيروس المُقبلة علينا ستكون أكثر تفشيا، إذا كنت قد تكاسلت قليلا بسبب انخفاض الموجة في الصيف فعاود الالتزام بالإجراءات الاحترازية قدر إمكانك، وتجهّز لما هو قادم، وتعلّم أن طول المحنة لا يعني أنها ستدوم للأبد، بل قد تكون أقرب مما تتصور، لكن فقط اصبر.
_____________________________________________
تفصلنا فقط أسابيع قليلة عن جائزة نوبل، أكبر حدث علمي بالعالم، ينتظرها متخصصو وهواة العلوم بشغف شديد، وتكون أيام إعلان جوائز نوبل هي فرصة عظيمة لمهرجانات علمية متزامنة احتفالًا بها.
من سيربح هذا العام؟
لطالما كان الأهم بالنسبة لدونالد ترامب تأييد خطة فتح البلاد، وتوجيه الناس لقراءة فيروس كوفيد-19 على أنه أقل مما يروج له العلماء أنفسهم.
.
فلماذا يصر الرئيس الأميركي على الإستهانة بهذا الوباء؟
قتل فيروس "كوفيد-19" نحو 700 ألف إنسان بسبعة أشهر فقط، وحبس عشرات الملايين منا مع القلق والتوتر بحجرة واحدة، ثم ها هو ذا يتسبب بطفرة هائلة بعلوم اللقاحات.
.
فمتى سنحصل على أول لقاح فعال لهذا الوباء؟
أعلنت روسيا عن لقاح جديد لفيروس كورونا المستجد بشكل مفاجئ حتى للنطاق البحثي الذي يتسابق للتوصل للقاح فعال للمرض، وذلك لأننا لا نعرف الكثير عن هذا اللقاح، فيطرح السؤال: هل نحن أمام لعبة سياسية لبوتين؟
جميع الحقوق محفوظة © 2020 شبكة الجزيرة الاعلامية
...
298
0