محمد شربي-سراييفو
يردد البوسنيون عبارة شهيرة كتبها علي عزت بيغوفيتش في كتابه السيرة الذاتية، حيث قال "أحيانا لا تعرف ما هو الخير لك وما هو الشر في هذه الحياة، فلو لم يتم سجني سنة 1946، وهو ما اعتبرناه أنا وعائلتي أمرا كارثيا، لما نجوت من القتل الذي قدر لزميل لي حلَّ مكاني في المنظمة بعد اعتقالي، أُعدم رميا بالرصاص بعد محاكمته في أكتوبر 1949، وهكذا أنقذ السجن حياتي!".
لم يكن يعرف البوسنيون أن سنوات الحصار الصربي على العديد من مدنهم، وعلى رأسها العاصمة سراييفو، وأن المعاناة الشديدة التي عاشوها، ستكونان يوما ما مفيدة لهم، فقد علمتهم قسوة السنين دورسا لا تُقدر بثمن، كما يقولون، وجعلت منهم شعبا قويا ومثلا يحتذى في تحدي الصعاب وإدارة الأزمات.
واليوم يدركون قيمة الدرس وعظمة التجربة، ويلاطف بعضهم بعضا قائلين "ماذا يعني حصار كورونا بالنسبة لحصار دام 1425 يوما"، ويعقدون المقارنات بين تلك الظروف القاسية وظروف التباعد الاجتماعي المفروضة الآن على البلاد.
دروس الحياةولا يتذكر البوسنيون دروس الحصار وحدهم، بل ويستحضرها معهم بعض ممن عاشوا معهم، من هؤلاء الصحفية الأميركية باربرا ديميك التي كتبت في افتتاحية لوس أنجلوس تايمز، مقالة بعنوان "كيف أعدّتني الحياة في سراييفو خلال الحصار للتعايش مع العزلة بسبب فيروس كورونا؟".
تقول باربرا "إنها بدأت مسيرتها المهنية كمراسل أجنبي في تسعينيات القرن الماضي في سراييفو والتي كانت تخضع لحصار من القرون الوسطى تقريبًا، حيث كانت معزولة وتقصف باستمرار".
وتضيف "أتذكر عندما سألتني امرأة بوسنية "ما رأيك، كيف كنتم ستعيشون أيها الأميركان لو أنكم في مثل هذه الظروف؟، لقد ظل ذلك السؤال عالقا بذهني على مر السنين، والآن، مع فيروس كورونا، تعرفت على جزء من الإجابة".
ثم تتابع "هذا لا يعني مساواة معاناة أهل سراييفو مع معاناة الأميركيين اليوم، حيث إن النقص في ورق التواليت، على سبيل المثال، هو إحدى المشكلات الكبرى، أما في سراييفو، فلم يكن بإمكان الناس الحصول على الماء، وكانت مغادرة المنزل بحثًا عن الطعام تعني المخاطرة بحياتك".
مواكبة الحياةوتعدد الدروس التي تعلمتها من سراييفو و"هي تكيف السكان مع الواقع الجديد وبذلهم الجهد وهم محاصرون في منازلهم أو في الملاجئ تحت الأرض لمواكبة مظاهر الحياة الطبيعية، من ذلك محاولتهم يوميا تغيير ملابسهم، بالرغم من صعوبة غسلها دون إمدادات مياه منتظمة".
كما لعبت فرق كرة القدم مباريات مصغرة في الملاجئ تحت الأرض -والحديث لباربرا- وابتكرت النساء وصفات لـ "أكلات حالة الحرب" لمحاكاة مطبخ الأوقات السعيدة.
تقوم إحدى الوصفات الشعبية على تجميع الخبز القديم ونقعه في الماء، لإعادة تشكيله، ثم طهيه ليبدو مثل شريحة لحم فيينا "لقد كانت فطيرة بالهواء فطيرة دون تعبئة على الإطلاق".
وعندما كانت القهوة تنفد من المنزل، كان الناس يستخدمون العدس، كانوا يضعونه على الموقد حتى يسود، ثم يطحنونه ويعدونه للشرب مثل القهوة!".
كذلك اشتهرت سراييفو، خلال الحصار، بروح الدعابة السوداء والملصقات الجدارية والغرافيتي الساخرة، فعند تقاطعات الشوارع حيث يُتوقع وجود القناصة الصرب، كتب البوسنيون على الحوائط جملة واحدة "اركض أو ارقد بسلام"!
وعن دور الفن في زيادة القدرة على المقاومة، تقول خلال الحصار، تزداد أهمية الفن والموسيقى لكن بشكل جديد، حيث تلعب دورا في إثارة العواطف التي يحتفظ بها الإنسان من أوقات أكثر سعادة، و"أنا أشاهد مقاطع فيديو حديثة لإيطاليين يغنون أوبرا من شرفات منازلهم، تذكرت عازف التشيللو الذي عزف، في حطام مكتبة سراييفو عام 1993، مقطوعة "أداجيو في سلم صول الصغير للمؤلف الموسيقي تومازو ألبينوني".
ولم تكن الصحفية الأميركية هي الوحيدة التي شهدت لصمود سراييفو، فقد حذت حذوها أيضا الكاتبة الصربية الشهيرة "بيليانا سيربليانوفيتش" خلال مقابلة تلفزيونية، في برنامج "برفا تيما" بقناة "برفا" الصربية، وذلك بعد تعافيها من الإصابة بفيروس كورونا.
تقول "يشتكي البعض من إجراءات العزل والتباعد الاجتماعي، ويدّعون أن هذا انتهاك للحرية وحقوق الإنسان، وأود أن أذكّر المشاهدين أنه في هذه الأيام بالتحديد تمر ذكرى بداية حصار سراييفو، حيث بقي الناس هناك في عزلة منزلية لمدة أربع سنوات، تحت الرصاص، من دون كهرباء ولا ماء".
وتضيف "لم تكن صرخة هؤلاء من أجل حرية الخروج بل كانت صرخة من أجل شربة ماء، وخوفا من القناصة الذين كانوا لهم بالمرصاد".
ما بعد الأزمةأما علماء النفس فيرون الموضوع من زاوية أخرى، ففي حوارها مع جريدة "فاكتور تقول أستاذة علم النفس بجامعة سراييفو جنانة هوسريموفيتش، "أنا لست قلقة بشأن قدرتنا على إدارة الأزمة، فإننا تعلمنا ذلك جيدا وتدربنا عليه لمدة أربع سنوات خلال العدوان علينا، لكني قلقة بشأن كيفية إدارة ما بعد الأزمة".
وتضيف "خلال سنوات العدوان كنا نعتقد أن أهم شيء هو البقاء، أن ننجو بأرواحنا من الخطر الداهم الذي كان يحيط بنا، فعلنا كل شيء حتى نبقى أحياء، ونجحنا في ذلك، لكننا بعد ذلك أدركنا أن مخاطر ما بعد الأزمة أخطر وأصعب، واستغرق علاج فترة ما بعد الأزمة زمنا طويلا، بل ما زلنا نعاني من آثارها".
والآن -تؤكد هوسريموفيتش- "لا يجب أن نكرر الشيء نفسه مع فيروس كورونا، لا بد أن نعمل على البقاء أحياء، لكن في الوقت ذاته لا بد أن تكون أعيننا على المستقبل لإدارة ما بعد الأزمة.
...
335
0